لا تعرف مدينة أوسلو، حجم الضرر الذي أوقعته على صورتها «اتفاقية أوسلو» في فلسطين المحتلّة والمنطقة العربية، ليس فقط لدى الجيل الذي عاصرها، لكن ما نخشاه أن أجيالاً جديدة ستواصل المعاناة جرّاء «الاتفاقية» التي وصفها- منذ أُعلنت- مثقفون فلسطينيون كإدوارد سعيد وهشام شرابي بالكارثة والمأساة.
منذ 1993، أصبح اسم أوسلو في أدبياتنا السياسية - نحن العرب- رديفاً لتزييف التاريخ وسرقة الحقوق والانتهازية والنفاق. حتى إن- تعابير كـ«ثقافة أوسلو»، و«مثقف أوسلوي» أصبحت أقرب إلى الشتائم. حجم الظلم الذي أوقعته تلك الاتفاقية على ملايين الفلسطينيين، وعلى مستقبل الأجيال القادمة ثبّت هذا الاقتران اللاإرادي بين عاصمة النرويجيّين وقائمة الشرور التي ذكرتها. ومَن يرجع إلى كتابات إدوارد سعيد وغيره من المثقفين، فسيجد تحليلاً لمدى الخداع الذي انطوت عليه «اتفاقية أوسلو»، التي تبدو لنا واحدة من أكبر عمليات الفساد السياسي المافيوزية التي عرفها تاريخنا المعاصر. (لهذا لم نستغرب حين كشفت الصحافة أن تيري رود لارسن وزوجته أخفيا الملفات الخاصة بالاتفاقية بعد انتهاء عمل "تيري" في وزارة الخارجية النرويجية، بطريقة تذكّر بـ «تضييع» ملفات الصفقات المشبوهة).
السياق يستحضر أوسلو لسببين: لأنها، المدينة التي يقترن اسمها لدى الشعب الفلسطيني بأسوأ الذكريات السياسية. والسبب الموضوعي أنّ «اتفاقية أوسلو» كانت مرحلة تحول كبير في الثقافة الفلسطينية، وفي صورة المثقف الفلسطيني، وفي شكل صراعه، وهو تأثير مستمر إلى يومنا هذا.
بعد «أوسلو»، عرف «مثقف منظمة التحرير» - كما سمّاه غالب هلسا في دراسة مبكرة له بهذا العنوان- طوراً جديداً أصبح فيه «مثقف السلطة» في صيغة قريبة من نمط «مثقف السلطة» العربي التقليدي في بلاطات الأنظمة الشقيقة.
ولعل فترة السبعينيات والثمانينيات وصولاً إلى بداية التسعينات كانت كافية لتهرّؤ نموذج «مثقف منظمة التحرير» ولانكشافه. لأنّ منظمة التحرير نفسها كانت في طريقها إلى الانكشاف والموت أيضاً بتأسيس «السلطة الوطنية الفلسطينية»، التي غلب عليها اسم «سلطة أوسلو». ومن «ثقافة منظمة التحرير»، بما لها وما عليها (إذ علينا أن نتذكر أنه في مقابل «مثقف منظمة التحرير»، كان هناك مثقفون أخلاقيون من طراز رفيع، ضمن بعض مؤسسات منظمة التحرير الثقافية كأنيس صايغ مثلاً، وإن لم يكن وجود أمثال أنيس صايغ موضع احتفاء من التيّار السائد). انتقلنا إلى «ثقافة أوسلو» بمعلناتها ومضمراتها، وأخطر هذه المضمرات ترجمة فلسطين عن العبرية لتكون فلسطين الجديدة هي "الضفة الغربية" و"قطاع غزة". وترجمة الشعب الفلسطيني إلى سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، وترك البقية (قرابة 6 ملايين فلسطيني في أرض اللجوء) وتحويل عودتهم إلى «حق مقدّس» في الشعارات، وموضوعاً من الدرجة الثانية في «المفاوضات» و«الحياة مفاوضات» كما تكشّف لقريحة «كبير المفاوضين».
ولعل أخطر ما صنعه «مثقف منظمة التحرير» هو ضربه لحراك المثقف الفلسطيني الآخر الخارج على الامتثالية والذرائعية. ثمة تاريخ من التهميش والتحريض مارسه التيار الرسمي في الثقافة الفلسطينية، أو تيّار «مثقف منظمة التحرير» على معارضي أو منتقدي سياسات المنظمة. ومن ينكر ذلك، فليراجع سيرة الشهيد ناجي العلي (1936- 1987) ورسومه، وسيرة عشرات غيره من المثقفين، الذين ظلوا في الهامش. ومن الممكن هنا قراءة الإفادات التي قدمها محمد الأسعد (صاحب رواية «أطفال الندى») ولا سيما مقالته «نبات الظل» (جريدة القبس1984 ) حيث وضع «نبات الظل» - المستعمل للزينة- في مقابل «نبات الحرية»- البريّ- الذي يمثله ناجي العلي، والأخير عنوان لتيار لعله الأكثر ضميرية وحيوية وخلقاً في الثقافة الفلسطينية المعاصرة.
ويمكن أيضاً مراجعة ما واجهه المفكر الفلسطيني هشام شرابي (1927 - 2005) عام 1996 حين حاول مع بعض المثقفين الفلسطينيين في أرض اللجوء، الدعوة إلى عقد «مؤتمر اللاجئين للعودة وتقرير المصير» الذي لم يقيض له أن يعقد. والمواجهة التي تعرضت لها فكرة المؤتمر وهشام شرابي شخصياً من «مثقفي المنظمة»، كما يوثقها كتاب «بيت بين البحر والنهر - محاورات حول فلسطين والعودة» (2001) لنوري الجراح الذي يتضمن حوارات أجراها المؤلف مع عشرة مثقفين فلسطينيين (بينهم هشام شرابي وإدوارد سعيد وشفيق الحوت ومحمود درويش، وثلاثة من المفاوضين في مؤتمر مدريد: حيدر عبد الشافي وحنان عشرواي وإلياس صنبر). الكتاب الذي يقدم صورة عن حالة المثقف الفلسطيني بعد أوسلو، تبدو محاوراته مرجعاً ممتازاً في كشف مواقف المثقفين الفلسطينيين من «أوسلو»، والهيمنة التي كانت تمارسها «منظمة التحرير» من خلال «مثقفيها» على المثقفين الفلسطينيين المستقلّين.. حيث نرى إلياس صنبر مُنقضّاً على دعوة هشام شرابي لعقد «مؤتمر العودة»، قائلاً: «ماذا يريد هشام شرابي؟ هل يريد تأسيس منظمة تحرير جديدة؟!». ونرى شرابي يرد بصبر محاولاً تجنّب الدخول في صراع مع المرتعدين خشية على «شرعية» منظمة التحرير وعفافها. ونسمع شرابي يقول بمرارة: «نحن من النخبة المؤلفة من مثقفين ورجال أعمال ومهنيين، كان دائماً لدينا وقت عمل مزدوج: هناك أجندة خاصة وأجندة وطنية. وفي الظروف الصعبة، كانت الأجندة الشخصية تتغلب على الوطنية. ومن هنا، تقصيرنا الواضح في العمل الوطني الفلسطيني والعربي، وعدم تمكّننا من تحمل مسؤولياتنا كاملة تجاه شعبنا».
■ ■ ■
ماذا يراد للمثقف الفلسطيني اليوم؟ ماذا تريد له القوى الاستعمارية؟ ماذا يريد له الاحتلال؟ ماذا تريد له الطبقة العربية المرتبطة مصالحها بالاحتلال والقوى الاستعمارية؟ وفي المقابل أين تقع إرادة المثقف، وماذا يريد لنفسه؟ وإذا كان لنا أن نسمّي مناطق جديرة بعمل المثقف الفلسطيني (سواء كان عربياً أو إنساناً حراً من العالم) فإن جهوده لا بد من أن تصب في الآتي:
- مقاومة ثقافة أوسلو، ومقاومة خلق تمثيل «معتدل» زائف لفلسطين في المجال الثقافي (الآداب والفنون) والمؤسساتي (المجتمع المدني)، في شكل متمّم لمقاومة صناعة «قيادة معتدلة» للشعب الفلسطيني من جانب أعدائه. وهذه ترتبط بمقاومة «التطبيع» والأَسْرَلة في الثقافة والإعلام، والأسرلة يمكن تلخيصها بقبول السردية الإسرائيلية، وخطاب الاحتلال، أو تسويغ الخطاب الاستعماري وتمريره. وهذا جميعه مشروط بالتمسك بالبعد الأخلاقي للقضية الفلسطينية، ونبذ التسلّط والاستبداد السياسي. وهذا لن يكون ممكناً إلا بنبذ الهيمنة التقليدية والمفاهيم البطريركية والكومبرادورية في القيادة، والدعوة إلى قيم ثورية فعلية تعلي من قيمة الإنسان.
- إعادة القضية الفلسطينية إلى تعريفها الصحيح، كحركة تحرر وطني من احتلال كولونيالي، لا بد من إعادة طرح القضية الفلسطينية كقضية سياسية، لا كقضية «إنسانية» (أي قضية شفقة ومساعدات)، كما يحاول أعداؤها منذ عقود أن يجعلوها. وفي هذا السياق، لا بد من تعريف الدور الغربي تعريفاً صحيحاً، باعتباره مسؤولاً جرمياً عما حلّ بالشعب الفلسطيني. وأيّ دور غربي على مستوى الحكومات، لا بد من أن يدخل من باب هذه المسؤولية التاريخية. وبالتوازي مع ذلك، يمكن العمل على استعادة البعد العربي المُبعِد للقضية الفلسطينية (من نافل القول إنّ التحرّر الفلسطيني يقع في صلب تحرّر المنطقة العربية)، إضافةً إلى بعدها التحرري العالمي. وهما بعدان تراجعا درامياً منذ «اتفاقية أوسلو».
- الإعداد لولادة حركة وطنية فلسطينية جديدة تستفيد من تجربة الماضي، ولا سيما الأخطاء. على أن تجمع بين الحلقات الثلاث (فلسطين المحتلة عام 1948، وفلسطين المحتلة عام 1967، وفلسطين اللجوء والشتات) وهذا يستدعي تكريس خطاب ثقافي يوحّد بين أبناء الشعب الفلسطيني في الحلقات الثلاث (48- 67- اللجوء).
- رفض تزييف القضية الفلسطينية وتصفيتها. وهذا يستدعي مواجهة مشروع «الدولة الفلسطينية» التي أصبحت، للمفارقة، مطلباً إسرائيلياً، باعتبارها مشروعاً لتصفية القضية الفلسطينية، ولا تملك من مقومات الدولة ومواصفاتها سوى ما يمكن أن توفّره للطبقة السياسية الحاكمة أو المستفيدة من سلطة وامتيازات ونمط معيشة طفيلي.
- إزالة آثار «أوسلو» وصياغة مشروع نظري محكم لتفكيك «إسرائيل»، يقوم على فرضيّتين متلازمتين: استحالة التعايش مع المشروع الصهيوني، ووصول المشروع الصهيوني إلى طريق مسدود. ولعله من ضمانات نجاح أطروحة من هذا النوع اشتمالها على حل عربي لـ«المسألة اليهودية» (تطرّق جوزف سماحة في كتابه «سلام عابر» (1993) إلى تصور لملامح هذا الحل).
في «معذبو الأرض» (1961)، كتب فرانز فانون: «لا بد لكل جيل أن يكتشف رسالته وسط الظلام، فإما أن يحققها، وإمّا أن يخونها». وفي مفترق هذا الجملة، يقف المثقف الفلسطيني اليوم.
[نسخة معدلة من مقالة بنفس العنوان سبق وأن نشرت بجريدة الأخبار]